إذ أنه لما ألف الإمام الشافعي كتاباً يرد به على الإمام مالك وفقهه، فغضب منه المالكيون المصريون بسبب الكتاب وأخذوا يحاربون الشافعي، وتعرض للشتم القبيح المنكَر من عوامهم، والدعاء عليه من علمائهم. يقول الكندي في "القضاة" (ص428): «لما دخل الشافعي مصر، كان ابن المنكدر يصيح خلفه: "دخلتَ هذه البلدة وأمرنا واحد، ففرّقت بيننا وألقيت بيننا الشر. فرّقَ الله بين روحك وجسمك"». وهذا فيه تحريض مبطّن لعوام المالكية لاغتيال الإمام الشافعي وتصفيته جسدياً. بل كان فقيههم "فتيان" يدخل المسجد ويشتم الشافعي بأقذع الشتائم أمام طلابه، والإمام الشافعي يتابع درسه ولا يجيبه. وقد قال الإمام موضحاً السبب لتلاميذه:
إِذا سَبَّني نَذلٌ تَزايَدتُ رِفعَةً * وَما العَيبُ إِلّا أَن أَكونَ مُسابِبُه
وَلَو لَم تَكُن نَفسي عَلَيَّ عَزيزَةً * لَمَكَنتُها مِن كُلِّ نَذلٍ تُحارِبُه
وقال كذلك:
إِذا نَطَقَ السَفيهُ فَلا تَجِبهُ * فَخَيرٌ مِن إِجابَتِهِ السُكوتُ
فَإِن كَلَّمتَهُ فَرَّجتَ عَنهُ * وَإِن خَلَّيتَهُ كَمَداً يَموتُ
واصطدم الإمام الشافعي كذلك بأحد تلاميذ مالك المقربين ممن ساهم بنشر مذهبه في مصر، وهو أشهب بن عبد العزيز. وكان أشهب –لشدة حقده على الإمام الشافعي– يدعو عليه في سجوده بالموت! ثم قام المالكية بضرب الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات حتى تسبب هذا بقتله –رحمه الله–. وقد اشتهر المالكية عبر التاريخ بتصفية خصومهم بالقوة. فالإمام مالك تكلم في قاضي المدينة سعد لأنه وعظه. وأخرج ابن إسحاق (قال مالك: "نحن أخرجناه من المدينة") وكذبه لأنه اتبع شيخه الزهري في جعل مالك مولى التميميين. وقد مر طعنه في الإمامين أبي حنيفة والأوزاعي. وانسحب هذا على أتباعه المالكية. وقد مر معنا كيف قضوا على مذهب إمام مصر الليث بن سعد. وفعلوا ما فعلوا بالإمام الشافعي. وضيعوا مذهب الإمام الأوزاعي بالأندلس. ولما طالبهم ابن حزم بالأدلة "كاعوا" (بإقرار أحد متعصبيهم) وعجزوا عن الحوار، لكنهم استعملوا السوط والسندان، وقاموا بإحراق كتبه.
يقول الإمام الذهبي في كتابه الشهير "زغل العلم": «الفقهاء المالكية على خير واتباع وفضل، إن سلم قضاتهم ومفتوهم من التسرع في الدماء والتكفير! فإن الحاكم والمفتي يتعين عليه أن يراقب الله تعالى ويتأنى في الحكم بالتقليد ولا سيما في إراقة الدماء. فالله ما أوجب عليهم تقليد إمامهم. فلهم أن يأخذوا منه ويتركوا كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. فيا هذا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك: "لم أبحت دم فلان؟" فما حجتك؟ إن قُلتَ (أيها المالكي): "قلدت إمامي" (في إباحة دماء المسلمين)، يقول لك (الله عز وجل): "أفأنا أوجبت عليك تقليد إمامك؟!". ثبت أن النبي r قال: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء". وفي الحديث: "لا يزال المرء في فسحة من دينه، ما لم يتند بدم حرام"».
وكان مالك كثير السخرية من خصومه، قليل الرد على أدلتهم. جاء في سير أعلام النبلاء (8|105): أن أبا خُلَيْدٍ قال لمالك: «إن أهل دمشق يَقْرَؤُونَ (في القرآن) إِبْرَاهَامُ». فقال مالك: «أهلُ دمشق بأكلِ البَطّيخِ أعلمُ منهم بالقراءة»!! قال له: أبو خليد: «إنهم يَدَّعُوْنَ قراءة عثمان». قال مالك: «فهذا مصحَفُ عثمان عندي» (أي عنده نسخة منه وليس الأصل). ودعا به، ففُتِحَ، فإذا فيه إِبْرَاهَامُ، كما قال أهل دمشق. اهـ. فهكذا يسخر مالك من قراءة متواترة للقرآن الكريم، دون أن يُكلّف نفسه بقراءة المصحف الذي في بيته (مع أن عمه كان مقرئاً)!
وقراءة "إبراهام" بدلاً من "إبراهيم" هي قراءة صحيحة متواترة. وهي قراءة ابن عامر، شيخ قراء أهل الشام. جاء في "حجة القراءات" (1|113): «قرأ ابن عامر إبراهام بألف... وحُجَّته في ذلك: أن كل ما وجده (في مصحف عثمان) بألف قرأ بألف، وما وجده بالياء قرأ بالياء، اتباع المصاحف. واعلم أن "إبراهيم" اسمٌ أعجمي دخل في كلام العرب. والعرب إذا أعربت اسماً أعجمياً، تكلمت فيه بلغات. فمنهم من يقول "إبراهام" ومنهم من يقول "أبرهم"». ولم يتفرد عثمان بن عفان t بهذه القراءة، بل تبعه غيره كذلك. جاء في فتح القدير (5|425): «وقرأ أبو موسى وابن الزبير إبراهام بألفين». وفي روح المعاني (30|111): «وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير إبراهام بألِفَين في كل القرآن».
كما عيب على مالك قلة اطلاعه على أقوال غير المدنيين، وزعمه الإجماع، فما اختلف فيه الناس كثيراً. ولعل السبب هو عدم خروجه منها، حيث لم يخرج لا لطلب علم ولا لجهاد ولا لرباط. وهذا أمرٌ –وإن فعله عدد من أهل العلم– فهو على خلاف عمل أهل الحديث. وأهمية الرحلة في طلب العلم، تكمن في أن الصحابة قد تفرقوا في الأمصار، ونشروا الحديث والفقه في الأمصار. فإذا أراد الفقيه أن يجمع هذا العلم، فلا بد له من الرحلة إلى تلك الأمصار وبخاصة الكوفة والبصرة والشام ومصر، فضلاً عن الحجاز. وهو ما فعله أكثر الأئمة الكبار مثل الشافعي وسفيان وابن المبارك وأحمد وغيرهم. وكان أبو حنيفة قليل الخروج من الكوفة إلا إلى الحج، فلما خرج أبو يوسف ومحمد إلى الحجاز، وناظروا العلماء (كالأوزاعي والشافعي) رجعوا عن كثير من أقوالهم. وكذلك رجع الإمام الشافعي عن كثير من أقواله لما خرج إلى العراق واستقر بمصر.
قال ابن حزم في "الإحكام" (4|565): «وهذا مالك يقول في موطئه: "إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه". ثم قال: "هذا ما لا خلاف فيه عن أحد من الناس، ولا في بلد من البلدان"!! قال أبو محمد: "وهذه عظيمةٌ جداً! وإن القائلين بالمنع من رد اليمين، أكثر من القائلين بردّها". ونا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن القاسم قال نا مالك: "ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد". ذكر هذا في كتاب السرقة من المدوّنة».
وخالف مالك عدة أحاديث صحيحة رواها في موطئه، زعماً أنها مخالفة لإجماع أهل المدينة (فضلاً عن الأحاديث التي ما رواها). وتتبع ذلك ابن حزم في رسالته في الرد على إجماع أهل المدينة في "الإحكام" (2|222)، وبَيَّنَ فيه أنه ليس من حديث ردوه إلا وقد عمل به أحدٌ من أهل المدينة. وبيّن كذلك بطلان كل أدلة الاحتجاج بعمل أهل المدينة عقلاً وشرعاً. وعلى النقيض من ذلك، كان مالك كثير المخالفة لإجماعات المسلمين، برأيه. وقد أحصى عليه الإمام محمد بن الحسن التميمي الجوهَري في كتابه "نوادر الفقهاء": 77 مسألة خالف بها مالك إجماع سائر المسلمين. وهذا أكبر عدد من المسائل الشاذة لأي فقيه ذكره الجوهري في كتابه. وما ذاك إلا لاعتماده للرأي وكرهه لمناقشة الأدلة. كما أنه -من باب أولى- قد خالف فقهاء المدنيين، كما بين الشافعي في "كتاب اختلاف مالك والشافعي" مطبوعة مع "الأم" (7|191-269).
ورد مالك للحديث الصحيح بدعوى مخالفة عمل أهل المدينة، أمر نص عليه. قال أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب في كتابه الشهير "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (6|96): «نص مالك في كتاب الجامع من العتبية وغيره على: مخالفة نص الحديث الصحيح إذا كان العمل بخلافه».
واشترط جمهور المالكية للعمل بالحديث الصحيح أن لا يَكُوْن مخالفاً لعمل أهل المدينة. وَقَدْ فند أدلتهم ابن حزم من وجوه حاصلها:
1- إن الخبر المسند الصَّحِيْح قَبْلَ العمل بِهِ، أحق هُوَ أم باطل؟ فإن قالوا: حق، فسواء عمل بِهِ أهل المدينة أم لَمْ يعملوا، لَمْ يزد الحقَ درجةً عملُهُم بِهِ وَلَمْ ينقصه إن لَمْ يعملوا بِهِ، وإن قالوا باطل، فإن الباطل لا ينقلب حقاً بعملهم بِهِ، فثبت أن لا معنى لعمل أهل المدينة أو غيرهم.
2- العمل بالخبر الصَّحِيْح متى أثبت الله العمل بِهِ، أقبل أن يعمل بِهِ أم بَعْدَ العمل بِهِ؟ فإن قالوا: قَبْلَ أن يعمل بِهِ، فَهُوَ كقولنا. وإن قالوا: بَعْدَ أن يعمل بِهِ، لزمهم عَلَى هَذَا أن العاملين بِهِ هم الَّذِيْنَ شرعوا الشريعة، وهذا باطل.
3- نقول: عمل من تريدون؟ عمل أمة مُحَمَّد r كافة، أم عمل عصر دُوْنَ عصر، أم عمل رسول الله r، أم أبي بكر، أم عمر، أم عمل صاحب من سكان المدينة مخصوصاً؟ فإن قالوا: عمل الأمة كلها، فَلاَ يصح. لأن الخلاف بَيْنَ الأمة مشتهر، وهم دائمو الرد عَلَى من خالفهم. فلو كَانَتْ الأمة مجمعة عَلَى هَذَا القول، فعلى من يردون؟! وإن قالوا: عصر دُوْنَ عصر، فباطل أيضاً، لأنَّهُ ما من عصر إلا وقَدْ وجد فيه خلاف، ولا سبيل إِلَى وجود مسألة متفق عَلَيْهَا بَيْنَ أهل عصر.
4- ونقول لَهُمْ: أهل المدينة الَّذِيْنَ جعلتم عملهم حجة رددتم بِهَا خبر المعصوم، اختلفوا فِيْمَا بَيْنَهُمْ أم لا؟ فإن قالوا: لا، فإن الموطأ يشهد بخلاف هَذَا. وإن قالوا: نعم، قُلْنَا: فما الَّذِي جعل اتباع بعضهم أولى من بَعْض.
كما رد عليهم بعجزهم عن تعريف المقصود بعمل أهل المدينة. إذ أن كثيراً من تلك المسائل التي زعموا عمل أهل المدينة عليها، فيها خلاف بين فقهاء المدينة. قال ابن حزم: «ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل». قال علي: «وهذا من أفسد قول وأشده سقوطاً. فأول ذلك: أن هذا العمل الذي يذكرون، قد سألهم من سَلَفَ من الحنفيين والشافعيين وأصحاب الحديث من أصحابنا منذ مئتي عام ونيف وأربعين عاماً: "عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون؟". فما عرفوا عمل من يريدون! ولا عجبَ أعجبُ من جهل قومٍ بمعنى قولهم وشرح كلامهم».
أخرج الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1|380 ط. ابن الجوزي) من طريق عبد الله بن إسحاق الجعفري قال: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة. قال: فتذاكروا يوماً السنن. فقال رجلٌ كان في المجلس: «ليس العمل على هذا»! فقال عبد الله: «أرأيت إنْ كثُرَ الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أَفَهُم الحجة على السنة؟». قال ربيعة: «أشهد أنَّ هذا كلام أبناء الأنبياء».
وكان الإمام مالك يروي الحديث الصحيح ثم يقول: "ليس على هذا العمل"، دون توضيح السبب. ويبرر ذلك المالكية بأنه يعتقد أن الحديث منسوخ لتعارضه مع عمل أهل المدينة. مع إقرارهم في بعض الحالات بعدم وجود الناسخ. وهذا محال، فكيف يحفظ الله لنا الحديث المنسوخ، ولا يحفظ لنا الحديث الناسخ؟! قال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (4|188): «وأقبح من ذلك عذره في جهله، إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة. وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين، إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله r». وقال الإمام ابن حزم في الإحكام (4|549): «إجماع الناس على خلاف النص الوارد -من غير نسخ أو تخصيص له وَرَدا قبل موت رسول الله r- فهذا كفر مجرد».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (33|94): «وقد نُقِلَ عن طائفة كعيسى بن أبان، وغيره من أهل الكلام و الرأي من: المعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة، و مالك: "أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة". وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ. فوجدنا من ذَكَر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخاً. فإن كانوا أرادوا ذلك، فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم كما تقول النصارى».
وكمثال على ما سبق نذكر مسألة المتبايعان بالخيار. فقد قال الإمام مالك في الموطأ: أخبرنا نافع، عن عبد اللّه بن عمر: أن رسول اللّه r قال: «المتبايعان كلُّ واحدٍ منهما بالخِيار على صاحبه ما لم يتفرَّقا، إلاَّ بيعَ الخيار». وهذا حديث صحيح ظاهر من نصه أن المقصود بالتفرق هو التفرق البدني. قال النووي: «وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم». أما الإمام مالك فقد فهم التفرق بالبدني، لكنه رفض العمل بالحديث فقال بعد روايته: «ليس لهذا الحديث عندنا حدٌّ معروف، ولا أمر معمول به». وأما محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فقد كان أحسن أدباً مع حديث النبي r، فقال بعد أن روى هذا الحديث عن مالك: «وبهذا نأخذ». لكنه أوّل الحديث بالتفرقة بالكلام، على خلاف ظاهر الحديث.
ويرد عليه ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: نا قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد حدثه عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله r قال: «إذا تبايع الرجُلان فكلَّ واحدٍ منهما بالخِيار ما لم يتفرّقا، وكانا جميعاً، أو يُخيّر أحدُهما الآخرَ. فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع. وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع».
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: «ومعنى أو يخيّر أحدهما الآخر أن يقول له: اختر إمضاء البيع فإذا اختار وجب البيع أي: لزم وانبرم، فإن خيّر أحدهما الآخر فسكت لم ينقطع خيار السَّاكت». قال أبو محمد: «هذا الحديث يرفع كل إشكال، ويبيّن كل إجمال، ويبطل التأويلات المكذوبة التي شغب بها المخالفون». قال الخطابي: «هذا أوضح شيء في ثبوت خيار المجلس. وهو مبطلٌ لكل تأويل مخالف لظاهر الحديث. وكذلك قوله في آخره "وإن تفرقا بعد أن تبايعا"، فيه البيان الواضح أن التفرق بالبدن هو القاطع للخيار. ولو كان معناه التفرق بالقول، لخلا الحديث عن فائدة».
وقال بعض المالكيين المتعصبين: «دفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به وذلك عنده أقوى من خبر الرجال»!! وزاد بعض من لم يتورع عن الكذب بأن هذا هو مذهب فقهاء المدينة السبعة وإجماعهم. ولا شك أن تلك الفرية لا تصح. إذ لم يُرْوَ عن أحد من وجه صحيح ترك العمل به نصّاً إلاَّ عن مالك. فأين النقل عن فقهاء المدينة حتى تزعموا إجماعهم؟
بل عمل بهذا الحديث راويه: عبد الله بن عمر t الذي أخذ أهل المدينة فقههم عنه. بل أخبر بأن هذا هو مذهب الصحابة وعملهم وأن هذه هي السنة. وقد نقل ابن حزم هذا عن عمر بن الخطاب، وعثمان، والعباس، وأُبَي، وأبو هريرة، وأبو برزة، وابن عمر، والصحابة جملة رضي الله عنهم. وكل هؤلاء مدنيون (إلا العباس t). فهذا إجماع صحيح من الصحابة ليس له مخالف من الصحابة ولا من التابعين. بل نقل ابن حزم العمل به عن سائر أهل الحديث، وأهل المدينة (قبل مالك). وممن قال به من كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وهو أجل فقهاء المدينة السبعة وأفقههم. ثم من طبقة أواسط التابعين قال به الزهري، من أجل فقهاء المدينة. ثم قال به من طبقة مالك، فقيه المدينة ابن أبي ذئب. أفلا يستحي من يزعم الإجماع بخلاف هذا الحديث؟
بل حتى فقيه المالكية الحافظ ابن عبد البر، يقر بأن أول من رد الحديث هو مالك وأبو حنيفة. قال (كما في الفتح): أجمع العلماء على أنَّ هذا الحديث ثابت، وأنه من أثبت ما نَقَل العدول. وأكثرهم استعملوه وجعلوه أصلاً من أصول الدين في البيوع. وردَّه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما. ولا أعلم أحداً ردَّه غير هؤلاء. وقال ابن حزم: «فشذ عن هذا كله أبو حنيفة، ومالك، ومن قلدهما،... وخالفوا السنن الثابتة، والصحابة، ولا يعرف لمن ذكرنا منهم مخالف أصلاً». قال: وما نعلم لهم من التابعين سلفا إلا إبراهيم وحده، ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه القول به. ثم بين ابن حزم بطلان تأويلهم لمقولة إبراهيم النخعي، ثم قال: «فحصلوا بلا سلف».
ومع ذلك فقد رفعه أتباعه لمرتبة كبيرة جداً، وبالغوا في ذكر علمه ومعرفته. يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (8|76): عن ابن وهب سمعت مالكاً وقال له ابن القاسم: «ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر». فقال مالك: «من أين علموا ذلك؟». قال: «منك يا أبا عبد الله». فقال: «ما أعلَمُها أنا، فكيف يعلمونها بي؟!». فإذا كان الناس في عصره ينسبون له فتاوى ما قالها، فما بالك بعد موته؟
وكانت له فتاوى غريبة، أنكرها عليه عدد من العلماء. فقد أفتى بأن الحمل قد يستمر في بطن أمه ثلاث سنوات (وفي رواية أخرى سبع سنوات). فلو طلَّق الرجل امرأته أو مات عنها، فلم تنكح زوجاً آخر، ثم جاءت بولد بعد سبع سنين من الوفاة أو الطلاق، لحقه الولد، وانقضت العدة به! ولقد سخر منه بعض خصومه وزعموا أنه يشجع على الفساد نساء غير صالحات من المطلقات أو ممن يغيب أو يموت عنهن الأزواج. قال ابن حزم في المحلى (10|317): «واحتج مقلدوه بأن مالكاً ولد لثلاثة أعوام! وأن نساء بني العجلان ولدن لثلاثين شهراً... وقال مالك: "بلغني عن امرأة حملت سبع سنين". قال أبو محمد: وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق، ولا يعرف من هو. ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا».
وهذا قولٌ شنيعٌ مخالفٌ للنقل والعقل معاً، ومخالف للثابت من العلم. فقد قال الله عز وجل (وهو أدرى بخلقه): {... وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا...} (15) سورة الأحقاف. طالما أن مجموع الحمل والفصال هو ثلاثين شهراً (سنتين ونصف) فمدة الحمل أقل من ذلك قطعاً. فمن ادعى مدة حمل أكثر من ذلك فقد رد كلام الله عز وجل، والعياذ بالله. وقد قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ...} فبعد ذلك إن بقيت المرأة ترضع ولدها فليست تلك من الرضاعة الشرعية. ولا يشك عاقل أن الآية عامة تشمل كل الحالات. وما كان ربك نسياً. ومنها استنتج الفقهاء بأن أقصر مدة للحمل هي ستة أشهر لقوله تعالى {...وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ...} (14) سورة لقمان، ونقلوا الإجماع على ذلك. فكيف يصدق مالك نسوةً جاهلات في أن مدة الحمل لوحدها قد تجاوزت الثلاثين شهراً وبلغت سنين طويلة؟! مع أن الأولى أن يحمل قولهن على الحمل الكاذب، وهو معروفٌ لدى الأطباء ومشهور. والثابت القطعي في الطب الحديث استحالة ولادة طفل حي بعد العشرة أشهر، كحد أقصى (وهي حالة نادرة جداً). وكل حالات الحمل تقريباً لا تتجاوز التسعة أشهر. وقد نقل ابن حزم في المحلى (10|317) عن عمر بن الخطاب t ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وأبي سليمان وأصحابه القول بأن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر. فلله در ابن حزم حين قال: «فمن ادعى حملاً وفصالاً في أكثر من ثلاثين شهراً، فقد قال بالباطل والمُحال، وردّ كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ جهاراً». وأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب من قال غير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنها أن الإمام مالك بن أنس أجاز ضرب المتهم بالسرقة للحصول على اعترافه، حماية للأموال. وتساءل الإمام الليث بما معناه: وماذا إذا ثبت أن المتهم بريء؟ إن حماية البريء أولى من عقاب المذنب. ولأن يفلت عشرة مذنبين خير من ظلم بريء واحد. ثم إن الضرب في ذاته عقوبة لا يقضى بها إلا بعد ثبوت الجريمة، وإلا فالضارب والآمر بالضرب ومن أفتى بجوازه كلهم مسؤولون. وقال مالك: «وهو الأمر عندنا بالمدينة: أن البُرَّ (الحنطة) والشعير جِنسٌ واحدٌ، لتقارب المنفعة». فقال ابن حزم: «القِطُّ أفقه من مالك! فإنه إذا رميت له لقمتان إحداهما شعير، فإنه يذهب عنها و يُقبِلُ على لقمة البُر».
ومما نقموا عليه كذلك فتواه بجواز اللواطة بالنساء (إتيان المرأة في دبرها)، وروي أنه كان يفعل ذلك بنفسه. إذ أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني قال: سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر، فقال لي: «الساعة غسلت رأسي منه». وقال ابن رشد في كتاب البيان والتحصيل في شرح العتبية: روى العتبي عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال له –وقد سأله عن ذلك مخلياً به– فقال: «حلال، ليس به بأس». وروى أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم عن مالك قال: «ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك فيه أنّه حلال –يعني وطء المرأة في دبرها– ثم قرأ {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم} قال: فأي شيء أبين من هذا؟ وما أشك فيه».
وجاء في كتاب "اختلاف الفقهاء" لابن جرير الطبري: «واختلفوا في إتيان النساء في أدبارهن... فقال مالك: لا بأس بأن يأتي الرجل امرأته في دبرها كما يأتيها من قبلها. حدثني بذلك يونس عن ابن وهب عنه (أي عن مالك)». وهذا إسناد صحيح لا مجال لإنكاره. وابن وهب فقيه ثبت من كبار أصحاب مالك. وهناك روايات أخرى تركتها لعدم الإطالة، وهي مشهورة. وفي أحكام القرآن للجصاص (2|40) قال: «المشهور عن مالك إباحة ذلك (إتيان المرأة في دبرها) وأصحابه ينفون عنه هذه المسألة لقبحها وشناعتها. وهي عنه أشهر من أن يندفع بنفيهم عنه». وروى المالكية خبراً يفيد رجوع الإمام مالك عن الإباحة، لكن الخبر مروي من طريق إسماعيل بن حصن، وهو واهي الحديث.
وقد انسحب هذا على عدد من المالكية الذين أباحوا نكاح المرأة في دبرها. قال القاضي عياض: كان القاضي أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي (ت 392هـ) يجيزه ويذهب فيه إلى أنه غير محرم. وصنف في إباحته محمد بن سحنون (ت259هـ)، ومحمد بن شعبان (ت355هـ)، ونقلا ذلك عن جمع كثير من التابعين. وفي كلام ابن العربي (543هـ) والمازري (ت526هـ) ما يومئ إلى جواز ذلك أيضاً. وحكى ابن بزيزة في تفسيره، عن عيسى بن دينار (ت212، وهو من مفاخر مالكية الأندلس!) أنه كان يقول: «هو أحل من الماء البارد».
قال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" في تفسير قوله تعالى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}:«اختَلَفَ العلماءُ في جَوازِ نِكاحِ المرأة في دُبُرِها. فجوَّزهُ طائفةٌ كثيرةٌ. وقد جَمع ذلك ابنُ شعبانَ في كتاب "جِمَاعُ النِّسْوَانِ وأحكامُ القرآن"، وَأَسْنَدَ جوازَهُ إلى زُمْرَةٍ كريمةٍ من الصحابة (!) والتابعين، وإلى مالكٍ من رواياتٍ كثيرةٍ». وقال في "سراج المريدين": «والمسألة مشهورة. صنّف فيها محمد بن سحنون جزءاً، وصنف فيها ابن شعبان كتاباً، وبيّن أن حديث ابن عمر في إتيان المرأة في دبرها». وقد اشتهر مالك بهذا حتى قيلت به الأشعار. فذكر الراغب الأصفهاني في "محاضرات الأدباء" (2|268) قصة همام القاضي الذي وطأ امرأة في دبرها على مذهب الإمام مالك، فنظم هذه الأبيات:
ومَذعورةٍ جاءتْ على غيرِ موعدٍ * تقنَّصْتُها والنَّجمُ قد كادَ يطلعُ
فقلتُ لها لما استمرَّ حديثُها * ونفسي إلى أشياءَ منها تَطَلَّعُ
أَبِيْني لنا: هل تُؤمِنين بـمالكٍ؟ * فإني بِحُبِّ المالكيَّةِ مُولَعُ
فقالتْ: نَعَمْ إني أدينُ بدينِهِ * ومذهبُه عَدلٌ لديَّ ومُقْنِعُ
فبِتْنا إلى الإصباحِ ندعو لمالكٍ * ونُؤْثرُ فتياهُ احتساباً ونتبعُ
وقبيل وفاته كان مالك كثير الندم، وكان يبكي لأنه كان يفتي برأيه. وقال –رحمه الله– لصاحبه في مرض موته: «يا ابن قعنب، ومالي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضُرِبتُ في كل مسألة أفتيت بها برأيي سُوطاً سوطاً. وقد كانت لي السَّعةُ فيما قد سَبقتُ إليه. وليتني لم أُفتِ بالرأي». انظر: وفيات الأعيان (4|137)، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6|224)، وجامع بيان العلم وفضله (2|1072).
الخلاف بين المالكية ومالك
بعد موت مالك أسس تلامذته مذهبه وأصبح لمالك مذهب دون أن يدري أنه سيخلد كصاحب مذهب. ففي الوقت الذي مات فيه مالك نادماً على الفتاوى التي أفتاها، جُمعت تلك الفتاوى وفق مذهب سُمي باسمه على يد تلامذته (خاصة من الأفارقة والأندلسيين). وكما أجرى تلامذة أبو حنيفة تعديلات على مذهبه، فعل كذلك تلامذة مالك تعديلات على مذهبه، أمثال أسد بن الفرات وعبد الملك بن حبيب ومحمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندري (انظر مقدمة ابن خلدون ص285، ط دار الهلال). وقد أضافوا له الكثير من الأقوال والمعتقدات الفاسدة التي حاربها ونص على خلافها. فزعموا أنه يجيز شد الرحال لزيارة القبر النبوي، مع أنه نص على خلاف ذلك. ونسبوا له تجويز التوسل بالأموات، وهو كذب عليه. ونقلوا أنه قال: «من تفقه ولم يتصوف فقد تزندق!!»، ولم يكن قد عُرِفَ مصطلح التصوف في المدينة في زمنه. لكن نسبة الأقوال الخاطئة له بدأ في مرحلة مبكرة جداً. قال الإمام أحمد في رواية المروذي: «كان مالك يُسأل عن الشيء، فيقدم، ويؤخر يبهت. وهؤلاء يقيسون على قوله ويقولون: "قال مالك"».
والأمثلة على ذلك كثيرة. فمثلاً: يقول ابن عبد البر (على سبيل المثال) في الاستذكار (ج5 #7389): «وذكر أبو مصعب في مختصره عن مالك قال: لا يؤم الناس أحد قاعداً، فإن أمّهم قاعداً فسدت صلاته وصلاتهم». ورد هذا الكلام حرفاً حرفاً في المختصر (مخطوط القرويين، ص31، تاريخ النسخ 359هـ) بدون ذكر مالك بن أنس. أما القاضي عياض فهو يعتبر هذا المختصر "أقاويل مالك بن أنس". مع أن مالكَ لا ذكر له في الكتاب إلا أربع أو خمس مرات على مضى 348 صفحة!
روى سحنون عن ابن القاسم في كتاب الغصب من "المدونة" (14|75 مطبعة السعادة بالقاهرة 1323) المسألة التالية: «قلت: أرأيت مسلماً غصب نصرانياً خمراً؟ قال: عليه قيمتها في قول مالك. قلت: ومن يقوّمها؟ قال: يقوّمها أهل دينهم». وروى ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (10|356): «قال مالك –في مسلم غصب خمراً لنصراني–: فعليه قيمتها يقوّمها من يعرف القيمة من المسلمين. قال سحنون في كتاب ابنه: حديث عهد بالإسلام. وقال ابن المواز: لا تخفى قيمتها على المسلمين. وقال ابن الماجشون: لا شيء عليه لأنه لا قيمة للخمر ولا للميتة. وقاله أحمد بن المعذل».
قال القاضي عياض في "التنبيهات المستنبطة" (مخطوط في مكتبة القرويين بفاس #574، وكذا في نسخة أسبانيا بالأسكوريال ص 117ب): «وقوله في تقويم الخمر: "يقوّمها أهل دينهم"، كذا روايتنا وكذا عند ابن عتاب وهي رواية ابن باز. وحوق عليه ابن المرابط (ت 492) وقال: ضرب عليه عند يحيى (بن عمر الكناني، تلميذ سحنون بالقيروان)، وكذلك في أصل الأسدية. وفي نسخ: "يقومها من يعرف القيمة من المسلمين"، وكذا في كتاب ابن سهل (القبرباني، ت 282، أحد رواة كتب سحنون بالقيروان) من رواية الدباغ (علي بن محمد بن مسرور، ت359، أحد رواة المدونة والموطأ بالقيروان، أخذ عته القابسي كتبه) في حاشية ابن المرابط، وعليه اختصر أكثر المختصرين. قال فضل: وهي روايتنا عند عبد الرحيم. وقد اختلف فيه قول ابن القاسم. قال أحمد بن خالد: كذلك أصلحت وكانت في الأسدية خطأ. والقولان معروفان، وفيها أقوال أخر كلها ترجع إلى معنى واحد، إلا ما هاهنا».
وفي المكتبة العتيقة بالقيروان نجد نسخة لكتاب الغصب نسخت من نسخة القبرياني، وهي عبارة عن جزء من المختلطة لسحنون. جاء في نصها: «قال: يقومها من يعرف القيمة من المسلمين». والجدير بالذكر أن المسألة كلها وضعت في هذه النسخة بين قوسين، فكتب على الهامش: «قال يحيى: حطّه سحنون ولم يقرأه لنا». وهذا ما أشار إليه القاضي عياض في التنبيهات "ضرب عليه عند يحيى". أما سحنون فانه لم يقرأ هذه المسألة في حلقته كما جاء في الأسدية، بل ضرب عليه في حلقته (حطّه سحنون).
وفي نسخة أخرى من كتاب الغصب نجد على الهامش: «قيل: ومن يقومها؟ قال:يقومها أهل دينهم». وبعد ذلك يأتي قول سحنون على الهامش أيضاً (سقطت بعض الكلمات في المخطوط): «قال سحنون: لا أراها قول ابن القاسم أن قول النصراني يقبل في تقويم الخمر. ألا ترى أنه لا يقبل من على دين الإسلام في حال السحت له؟ والذي على غير الإسلام أبعد من أن يقبل قوله أصلا في شيء. وهذا مما لا (...) علمه عن (...) يستغنى فيه عن النصراني. وان كنت أعرف من أصحابناً من لا يرى فيها قيمة أصلاً، وهو (...). كلام سحنون هذا في داخل الأم عند د. (طمس)». عند د: معناه: نسخة الصدفي، عمر بن عبد الله المعلم (ت 347 أو 350).
فحسب ما جاء في آخر الحاشية كان قول سحنون هذا في المدونة نصا (داخل الأم) بعد ما صحح المسألة كما وردت في الأسدية انطلاقاً من: يقوّمها أهل دينهم. وهو ما اعتبره أحمد بن خالد القرطبي خطأ في الكتاب. وهو ما لم يقرأه سحنون في حلقته، بل رفض القول الأول كما يتبين ذلك على الهامش في هذه النسخة. الأسدية تنص على كذا وأن سحنون يرفض. غير أنه لا يرفض بالمرة، بل هناك نسخ مختلفة تروي ما في الأسدية، حتى يأتي سحنون في حلقته و(يضرب عليه) أو حوق عليه ويقول رأيه على الحاشية، الذي يصبح نصا للمدونة. فسحنون هو الذي قام بتغيير النص في كتبه، وتلاميذه سجلوا ذلك تسجيلا عبر القرنين بعده.
في تهذيب المدونة لأبي سعيد البراذعي القيرواني (4|99): «ومن غصب لذمي خمراً فأتلفها، فعليه قيمتها. يقومها من يعرف القيمة من المسلمين». وهذا الكتاب يقول عنه ابن خلدون (ص563): «اعتمده المشيخة من أهل إفريقيا، وأخذوا به، وتركوا ما سواه». وكلمة "فأتلفها" لم يكن موضوع المسألة لا عند ابن القاسم ولا في الأسدية. هذا هو آخر المطاف في تطور النص بدءاً من الأسدية، إلى نسخ المدونة والمختلطة، ومن هناك إلى البرادعي.
قال شيخ الإسلام في مجموع فتاواه: «ومعلومٌ أن مدوّنة ابن القاسم، أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرعها أهل العراق. ثم سأل عنها أسد ابن القاسم، فأجابه بالنقل عن مالك، وتارة بالقياس على قوله. ثم أصَّلَها في رواية سحنون. فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة. ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك، ثم رواية غيره. فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها. وقد تكون مرجوحة في المذهب وعمل أهل المدينة والسنة، حتى صاروا يتركون رواية الموطأ –الذي هو متواتر عن مالك وما زال يحدث به إلى أن مات– لرواية ابن القاسم».
قال البرذعي في "سؤالاته" (2|533): وذكرت لأبي زرعة (الرازي) مسائل عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، فقال: «عنده ثلاثمئة جلدة أو نحوه عن مالك مسائل أسدية». قلت: «وما الأسدية»؟ فقال: «كان رجل من أهل المغرب يقال له أسد، رحل إلى محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) فسأله عن هذه المسائل. ثم قدم مصر، فأتى عبد الله بن وهب فسأله أن يسأله عن تلك المسائل: مما كان عنده فيها عن مالك أجابه، وما لم يكن عنده عن مالك قاس على قول مالك. فأتى عبد الرحمن بن القاسم، فتوسع له، فأجابه على هذا. فالناس يتكلمون في هذه المسائل». فما اكتفى المالكية بجمع آراء إمامهم التي ندم عليها، بل نسبوا إليه آراء أخرى ما قالها. وقاموا بتقديم المدوّنة على نصوص الإمام مالك في الموطأ!! ثم تم تدوين كتب أصول مذهب المالكية في العراق، من قبل المتكلمين. مما زاد في الهوة بين مذهب المالكية المتأخرين، وبين مذهب أهل المدينة الأوائل. والله يبدل الليل النهار، وهو على كل شيء قدير.
وقد اختلف المالكية عن ابن القاسم أيضاً! فنقل عنه عبد الملك بن حبيب القرطبي (ت238هـ) كتاب "الواضحة"، ثم دوّن محمد العتبي القرطبي (ت254هـ) من تلامذته كتاب "المستخرجة العتبية". ورحل من إفريقية أسد بن الفرات (145-204هـ) فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً، ثم انتقل إلى مذهب مالك، وكتب على ابن القاسم المصري في سائر أبواب الفقه. وقد حدث خلط بين المذهبين كما سبق بيانه. وجاء إلى القيروان بكتابه "الأسدية". فأخذ هذا الكتاب القاضي سحنون، وعارض مسائله على ابن القاسم، فتغيرت عدة أجوبة. وهذا شيء متوقع إن كان الجواب معتمداً على الرأي. فكتب سحنون كتاب "المدونة"، وقد اختلطت فيها الكثير من المسائل، فسماها الناس "المختلطة". وعكف أهل الأندلس على "الواضحة" و"العتبية"، ثم هجروا "الواضحة". أما أهل القيروان فاعتمدوا على "المدونة المختلطة"، واعتنوا بها أشد من عنايتهم بالقرآن.
يقول الباحث نذير حمدان في "الموطآت": «إن المتتبع للبحوث والموضوعات المتنوعة في "المدوَّنة" يفاجأ بقلة الرصيد القرآني استدلالاً على أبواب المؤلِّف الكبير وفصوله وأحكامه، حتى إنّ ألصق الموضوعات بالقرآن تحريماً وتحليلاً واستشهاداً لا تجد فيها نصاً قرآنياً بالدلالة أو بالإشارة أو بالمفهوم المخالف. خذ لذلك عناوين الموضوعات...». ثم سرد عناوين كثيرة، ثم قال: «وهي موضوعات قرآنية قبل كل شيء». ولم يتعد الأمر لقلة الاستدلال بالقرآن، بل وصل إلى قلة الاستدلال بالحديث كذلك. يقول د. قطب الريسوني: «لا أعرف لمتقدمي المالكية أو متأخريهم كتاباً مخطوطاً أو مطبوعاً، في تخريج أحاديث فقه المذهب».
فلا يجد القارئ لكتبهم والناظر فيها إلا آراء مجردة وأقوالا متناقضة، يشعر المالكية أنفسهم بتناقضها. ولقد بلغ من إعراضهم عن الدليل أنهم يضعفون أقوال أئمة المذهب المعروفين بالميل إليه والعمل بما يقتضيه، كابن عبد البر والباجي وابن العربي. فأقوال هؤلاء و أمثالهم لا تذكر في كتب المتأخرين إلا مشفوعة بالتضعيف غالباً، لا لشيء إلا لأن أصحابها يتبعون الدليل. بل بلغ المتأخرون في الغلو إلى حد أن بعض شراح تحفة ابن عاصم قال أثناء كلامه على مسألة ما نصه: "خلافاً لما في الحديث". فيا لله ويا للمسلمين، إذا خولف الحديث بهذه الصراحة، فيعتبر وفاق من؟! وهذا النقص الشديد جعل بعض المعاصرين (من مالكية وغيرهم) يحاولون إخفاء هذا النقص دفعاً لتعيير مخالفي المالكية. فذكروا في كتبهم بعض الأدلة على استحياء، وكثير من المسائل لم يجدوا عليها أدلة سوى أقوال مالك! ولعل أوسع تلك الكتب هو "مواهب الجليل من أدلة خليل" لأحمد المختار الجكني الشنقيطي. وقد أعوزه الاستدلال على كل الفروع بالمنقولات، فلجأ إلى النظر وروايات المذهب المالكي نفسه. وهناك كتاب للغماري مختصر جداً، ولكنه لم يأت على كل مسائل الفقه تفصيلاً، بل كأنه يتحرى بعض مسائل الخلاف.
فأمهات الكتب عند المالكية لا تعتمد على القرآن ولا على السنة، وإنما على رأي مالك وعلى التفريع عليه. قال نذير حمدان في كتابه "الموطآت" (ص186) عن أمهات الكتب المالكية (المدونة والواضحة والعتبية والمَوّازية): «في هذه المصنّفات الإقلال من الاستدلال بالنص، وبخاصة المرويات سنداً ومتناً، والاكتفاء بقول مالك نفسه». ثم يقول: «نقل مسائل مالك فيها: بالنص أو بالمعنى، ثم التفريع على قوله والقياس عليه في الاستدلال».
فهل كان المالكيةُ دقيقين في نقلهم لآراء إمامهم؟ أما رواية يحيى للموطأ، ورواية سحنون للمدونة المختلطة، فقط سبق الحديث عن الأخطاء التي وقعت فيهما. وأما عبد الملك بن حبيب القرطبي (صاحب يحيى الليثي) فهو مختلف في عدالته. كان ابن حزم يقول: «ليس بثقة». ويقول: «روايته ساقطة مطرحة». وقال الحافظ أبو بكر بن سيد الناس: «وبعضهم اتهمه بالكذب». وعليه بالأساس اعتمد تلميذه محمد العتبي في كتابه "المستخرجة العَتْبية". قال فيها ابن حزم (كما في بستان المحدثين ص12): «لها عند أهل العلم بإفريقيا القدر العالي والطيران الحثيث». فهذه مكانتها في إفريقيا في ذلك الوقت، فما بالك بمكانتها بالأندلس وقد اعتبرت هناك المصدر الرئيسي للمذهب المالكي؟ ومع ذلك يقول عنها محمد بن عبد الحكم: «رأيت جلّها مكذوباً ومسائل لا أصول لها، ولما قد أسقط وطرح، وشواذ من مسائل المجالس لم يوقف عليها أصحابها». انظر "ترتيب المدارك" (3|145)، و "الديباج المذهب" (2|177). وقال ابن الفرضي عن العتبي: «جمع المستخرجة، وأكثر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة». وقال ابن وضاح: «وفي "المستخرجة" خطأ كثير». وتعقب صاحب "نفح الطيب" (2|215) ذلك فقال: «كذا قال، ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من أعلام المالكية كابن رشد وغيره». أقول: كون هذا الكتاب هو عمدة مالكية الأندلس وبعض مالكية إفريقيا لا يعني صحته بالضرورة.
واستمر تطور المذهب المالكي. فأخذ مالكية القيروان "المدونة المختلطة" فاختصروها. ثم جاء آخر فاختصر الاختصار. وهكذا حتى وصل الأمر إلى سبعة مراحل من الاختصار. وصار ذلك مخلا بالبلاغة وعسرا على الفهم، لما فيه من حشو القليل من الألفاظ، بالمعاني الكثيرة، مع حذف الأدلة على ندرتها. فما الجديد الذي جاء للأمة؟! وما الفائدة المرجوة من هذا الهدر؟ إلى أن تم تلخيص الفقه المالكي في كتيّب صغير اسمه مختصر خليل (ت767هـ). ولغة هذا المختصر معقدة غامضة صعبة الفهم. يقول قاضي المالكية ابن خلدون منتقداً هذا الاختصار المخل: «وهو فساد في التعليم. وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد. وهو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة. فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات –إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة– فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة».
فقام المالكية بشرح مختصر خليل. ثم قام مالكي آخر فوضع تعليقاته على شرح مختصر خليل. ثم جاء آخر فوضع حاشية على التعليقات على شرح مختصر خليل. حتى وصلت الحواشي على الكتاب الواحد إلى سبعة حواشي! ما الجديد؟ جمود واجترار فكري وإضاعة للوقت والعمر. وأنت إذا نظرت في كتب المالكية المتأخرين، تعجّبتَ من قلة ذكرهم للأحاديث وأقوال الصحابة، مما جعل هذه الكتب جافة جامدة. ومن أشهر الكتب المعتمدة للفتوى عند المالكية اليوم هو شرح الزرقاني (لمختصر خليل) بحاشية الرهوني، وإن كان شرح الدردير بحاشية الدسوقي يستعمل أكثر للتدريس. قال الحجوي الثعالبي الفاسي: «المدونة فيها ثلاثة أسفار ضخام مفهومة بنفسها، لا تحتاج إلى شرح في الغالب. لكن خليل لا يمكننا أن نفهَمُه ونثِق بما فهِمناه منه، إلا بستة أسفار للخرشي وثمانية لزرقاني وثمانية للرهوني»! وهذا كلام يكتب بالذهب. فلو بذل طالب العلم المالكي جهده لإتقان المدونة (وهي الأصل الفقهي لعامة كتبهم) ذات الإسلوب السهل الفصيح، لكان أسهل له بكثير وأعظم فائدة من محاولة فك ألغاز المختصرات الغامضة عن طريق الحواشي الضخمة ذات اللغة الصعبة (الركيكة أحياناً).
وذلك ذكر العلامة ابن خلدون في المقدمة (ص330 ط. دار الهلال) فصلاً في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل. قال فيه: «ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا، وما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله. وحينئذ يسلم له منصب الفتيا. وهي كلها متكررة، والمعنى واحد! والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها. والعمر ينقضي في واحد منها. ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً».
ومن هنا ابتعد المالكية كثيراً عن مذهب مالك، وصاروا اليوم أتباع شُرّاح مختصر خليل. قال الإمام ابن معمر في الدرر السنية (4|57): «متأخروا المالكية هم في الحقيقة أتباع خليل. فلا يعبئون بما خالف مختصر خليل شيئاً. ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين، لم يعملوا به إذا خالف المذهب... وكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم لا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها. وأما كتب الحديث كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وشروحها وكتب الفقه الكبار التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين، فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل». وهذا حق يقر به الكثير من المالكية اليوم. قال الشمس اللقاني: «نحن خليليون، إن ضلّ خليل ضللنا». ويعقب أحمد بابا التبكتي على ذلك فيقول: «وذلك دليل دروس الفقه وذهابه، فقد صار الناس من مصر إلى المحيط خليليون، لا مالكية». وتم تقسيم مختصر خليل إلى أربعين ''حزبا''، وكان المغاربة إلى عهد قريب يسردون هذه الأحزاب في المساجد والزوايا كما يسرد القرآن. وقال العمري في "إيقاظ الهمم" (ص26) عن المالكية في زمانه: «جعلوا دينهم الحمية والعصبية، وانحصروا على طوائف. فطائفة منهم: خليليون ادعوا أن جميع ما أنزل على محمد r محصور في مختصر خليل!! (فأنزلوه) منزلة كتاب الله العزيز الجليل». ولكن الله يهدي من يشاء.
فوائد عن منهج مالك في الفقه والحديث والإيمان
وكان مالك الإمام الأعظم في تمييز البدعة عن السنة. يقول الإمام مالك -رحمه الله-: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً r خان الرسالة. لأن الله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم}. فما لم يكن يومئذ ديناً، فلن يكون اليوم دينا». وانظر قوله في الزيارة. ومالك أثري، من أكثر الأئمة نبذاً للمُحدثات من الأمور. وكلامه في البدع العملية، أكثر من كلام غيره من الأئمة. كما أن كلام الإمام أحمد في البدع الاعتقادية، أكثر من كلام غيره. فمالك له نظرة دقيقة ومذهب أثري، قلّما تجده عند غيره. وهذا شيء مختلف عن مسألة توسعه بالرأي في الفتوى.
وقال كذلك: «لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئاً، ثم نجا من هذه الأهواء، لرجوت أن يكون في أعلى الفردوس. لأن كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء، ولكل هوى ليس هو على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم». فرحم الله الإمام مالك رحمة واسعة، ورضي عنه، فقد كان سيفاً مسلطاً على المبتدعة.