عرض مشاركة واحدة
  #31  
قديم 2012-07-24, 10:04 AM
آية.ثقة آية.ثقة غير متواجد حالياً
عضو جاد بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2012-01-30
المشاركات: 203
افتراضي السيرة النبوية (للشيخ عثمان بن محمد الخميس) (تابع)



الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:


بعد وفاة أبي طالب ، وبعد وفاة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف يدعو إلى الله تبارك وتعالى ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس تلك السنوات العشر في مكة يدعو إلى الله تبارك وتعالى ، ثم رأى صلوات الله وسلامه عليه أن يخرج من مكة ويبدأ في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى خارج نطاق مكة ، فأول ما فكر صلوات الله وسلامه عليه في الطائف ، فخرج مشيا على قدميه إلى الطائف معه زيد بن حارثة بن وزيد هذا هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه في أول الأمر فكان يسمى زيد بن محمد ، حتى نزل قول الله تبارك وتعالى :" أدعوهم لآبائهم " الأحزاب[5] فصار ينادى بعد ذلك بزيد بن حارثة.
لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف ، وهم : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، من رؤوس أهل الطائف ، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى نصرة دينه . فقال أحد عن نفسه أنه يمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم . وقال آخر لنبي الله صلى الله عليه وسلم: أمَا وجد الله غيرك؟ وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا. إن كنت رسولا لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.
هكذا عامل هؤلاء الثلاثة النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القسوة، وذلك الإستهزاء ، وهو قد خرج من بلده ودخل إلى بلد هو غريب فيها ، يدعو إلى الله تبارك وتعالى ولكنّه وُوجه بهذه الكلمات التي ملؤها الإستهزاء والسخرية.
وليت الأمر بقي أو استمر على ذلك ، ولكن الأمر زاد كما قيل وطفح الكيل ، وذلك أنهم جاءوه فقالوا له أخرج من بلادنا ، ثم أغرُّوا به سفهاؤهم ، فلما أراد الخروج تبعه السفهاء والعبيد والصبيان يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس (أي على النبي صلى الله عليه وسلم ) فوقفوا صفين ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، وبكلمات من السفه ، ورموه حتى أصابوا عراقيبه(أي قدميه) صلوات الله وسلامه عليه، حتى اختضب النعال بالدم ، وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه . فصار النبي يمشي وهؤلاء يضربونه صلوات الله وسلامه عليه ، حتى إلتجأ إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وعتبة وشيبة ابني ربيعة لهما حائط في الطائف فالنبي صلى الله عليه وسلم ما زال يهرب من أولئك السفهاء والجهال الذين صاروا يرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه حتى دخل إلى ذلك الحائط وهو يبعد عن الحائط كما يقول أهل العلم بثلاثة أميال . فلما إلتجأ إليه رجعوا عنه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الحائط ، فجاء إلى حبلة من عنب (يعني شجرة صغيرة من العنب) يقول : فجلس تحت ظلها إلى جدار . فلما جلس واطمأنَّ دعا بدعاء ملؤه اللجوء والرغبة لما عند الله تبارك وتعالى ، والذي من خلاله يظهر للمؤمن كيف أن يجب عليه دائما أن يصدق مع الله، وأن يلتجئ إلى الله ، وأن يرجع إليه في كل أمره .
فقال صلوات الله وسلامه عليه:" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين ، أنت ربُّ المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهـمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
فلما رآه ابنا ربيعة : عتبة وشيبة تحركت له الرحم ( وذلك لأنهما من أهل مكة من قريش ، والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ومن قريش صلوات الله وسلامه عليه )، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل. فلما جاء عداس وضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فمد بيده صلوات الله وسلامه عليه وقال: باسم الله ثم أكل.
بعد رجوعه من الطائف صلوات الله وسلامه عليه أراد الله جل وعلا أن يخفف على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يبين له أنه معه سبحانه وتعالى ، ولكنه يبتليه سبحانه وتعالى ليرفع درجته.
روى الإمام البخاري في سنده : عن عروة بن الزبير ،أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد. قال صلوات الله وسلامه عليه:"لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عَرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي (أي من الطائف) ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب-الآن يقال له فرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فيها فإذا فيها جبريل فناداني وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردُّوا عليك . وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. يقول صلوات الله وسلامه عليه : فناداني ملك الجبال ، فسلم عليَّ ، ثم قال : يا محمد ذلك فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت (والأخشبان هما جَبَلا مكة ، أبو قبيس وأبو قعيقعان). فقال النبي الكريم الرحيم الحليم المشفق على أمته صلوات الله وسلامه عليه (وهكذا يجب على الداعية إلى الله تبارك وتعالى أن ينظر إلى العصاة وإلى الصَّادِّين النَّادِّين عن أمر الله تبارك وتعالى نظرة المشفق عليهم). ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: " بل أرجو أن يُخرِج الله عزَّ وجلَّ من أصلابهم مَن يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا" .
وسلاَّه الله تبارك وتعالى كذلك بأمر آخر وهو أنه خلال إقامته بعث الله نفرا من الجِنِّ ، والجِّنُّ كالإنس مكلفون ، مأمرون بالإيمان ، منهيون عن الكفر . من أطاع مهم دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار . فبعث الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الجن ذَكَرهم الله تبارك وتعالى فقال:" وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" سورة الأحقاف [29-31] .
هكذا أرسل الله تبارك وتعالى نفرا من الجن كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن كان أحزنك كفر أهل مكة ، وكفر أهل الطائف وإيذاؤهم لك ، فقد أرسل الله إليك من آمن بك من الجن ، وهذه لا شك تفرح النبي صلى الله عليه وسلم وتسعده.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة ، مكث بحراء وبعث رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره ( يعني يريد الآن أن يدخل مكة ولكنه يريد الجوار ، يريد أحدا ليدافع عنه حتى لا يُؤْذى بعد وفاة عمه أبي طالب). فقال الأخنس بن شُرَيْقْ : أنا حليف(أي لست من مكة)، والحليف لا يجير. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو يطلب منه الجوار. فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب (يعني ما أستطيع أن أجيرك على أهل مكة). فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدي . فقال المطعم: نعم(أي قبل أن يجير النبي صلى الله عليه وسلم). قال: نعم. ثم تسلح ودعا بنيه وقومه وقال: البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا. ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحرام . فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يهجه منكم أحد. فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه ، وصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وأولاده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (أي حول النبي حتى دخل بيته ).وقام أبو جهل إلى المطعم بن عدي فقال: أمجير أم متابع؟ (يعني أمجير أنت لمحمد أم أنك دخلت دينه) . قال : بل مجير. فقال أبو جهل : قد أجرنا من أجرت.
هذا التصرف من المطعم بن عدي يظهر لنا أمرا مُهِما يجب علينا أن نقف عنده ولو لدقائق. إن الله تبارك وتعالى لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثه من العرب ، ولماذا الله تبارك وتعالى اختار العرب؟ ما الحكمة التي من أجلها اختار الله تبارك وتعالى العرب دون غيرهم من سائر البشر ؟ ذكر أهل العلم في ذلك حكما كثيرة ، فمن أعظم تلك الحكم ك
أن العرب لهم من الصفات ما ليس في غيرهم ، فنجد أن العربي كريم ، بل ويضرب في كرمهم المثل ، وشجاع لا يهاب شيئا ، ثم كذلك نراه في قضية الجيرة يحافظ على خق الجار . ألم يقل عنترة ذلك الجاهلي :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري لجارتي مثواها
ثم كذلك أهل صدق باللسان ، وسيأتينا في قصة أبي سفيان مع هرقل قول أبي سفيان : والله لولا أن العرب تحقد على الكذب لكذبتُ ، وهو يقول هذا في جاهليتهم .
ثم عندهم كذلك الجوار ، هذا الذي قام به المطعم بن عدي ، وعندهم الألفة ، وعندهم الأخوة ، والأمانة ، يموت الرجل في سبيل أن يدافع عن أمانته ، وقصة السموأل مع امرؤ القيس مشهورة جدا ، لمُّا جعل عنده ابنته أمانة مات في سبيل الدفاع عنها .
والصفات الأخرى كذلك للعرب ، لأجلها جميعا أو لغير ذلك من الحكم اختار الله تبارك وتعالى العرب دون غيرهم . فهذا المطعم بن عدي على الشرك متابع لقومه ، معاد للنبي صلى الله عليه وسلم ، يبغض دينه، قاطع النبي صلى الله عليه وسلم مع من قاطع ، ثم هو كان ممن ساعد أو ساهم في نقض الصحيفة ، مع هذا كله يأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له أجرني حتى أدخل إلى بلدي . فيقول : نعم . ثم ماذا يفعل ؟ يأمر أولاده أن يسلحوا دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أجاره ، فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي ، ثم هذا أبو جهل يسأل المطعم بن عدي أمجر أم متابع؟ قال المطعم بل مجير. ماذا قال أبو جهل ؟ قال: قد أجرنا من أجرت.
كما قال ابن خلدون –رحمه الله تبارك وتعالى :إن العرب قد اجتمعت فيهم صفات كثيرة من الحسن ، وإنما كانوا يحتاجون إلى دين يربطهم ويقوم سلوكهم، فبعث الله تبارك وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة السمحة ، وبهذا الدين القيم ، فلما اختارت العرب هذا الدين ، كيف نصر الله بهم الدين ونشره في المعمورة وحق لهم ذلك.
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نسي هذا المطعم ، في غزوة بدر كما سيأتي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الأسرى لما خُيِّر صلوات الله وسلامه عليه بين المنِّ والقتل والفداء قال: لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم سألني أولئك النتنى لأعطيتهم إياه أو لتركتهم له.
رد مع اقتباس