سابعاً . التدليس (124):
هُوَ أحد الأسباب الرئيسة الَّتِيْ تدخل الاختلاف في المتون والأسانيد ؛ لأن التدليس يكشف عَنْ سقوط راوٍ أحياناً فيكون لهذا الساقط دور في اختلاف الأسانيد والمتون ولما كَانَ الأمر عَلَى هَذِهِ الشاكلة ،
فلابدّ لنا من تفصيل القَوْل في التدليس :
فالتدليس لغة : من الدَّلَسِ – بالتحريك – وَهُوَ اختلاط الظلام ،
والتدليس : إخفاء العيب وكتمانه (125) .
أما في الاصطلاح ، فإن التدليس عندهم يتنوع إلى عدة أنواع :
الأول : تدليس الإسناد : وَهُوَ أن يروي الرَّاوِي عمن لقيه ما لَمْ يسمعه مِنْهُ بصيغة محتملة (126) .
والمراد من الصيغة المحتملة : أن لا يصرح بالسماع أَوْ الإخبار مثل : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا (127) وأنبأنا ، وسمعت ، وَقَالَ لنا ، وإنما يجيء بلفظ يحتمل الاتصال وعدمه ، مثل : إن ، وعن ، وَقَالَ ، وحدّث ، وروى ، وذكر ، لذا لَمْ يقبل الْمُحَدِّثُوْنَ حَدِيْث المدلس ما لَمْ يصرِّح بالسماع (128) .
الثاني: تدليس الشيوخ :
وَهُوَ أن يأتي باسم شيخه أَوْ كنيته عَلَى خلاف المشهور بِهِ تعمية لأمره وتوعيراً للوقوف عَلَى حاله (129). وهذا النوع حكمه أخف من السابق ، وفي هَذَا النوع تضييع للمروي عَنْهُ وللمروي وتوعير لطريق مَعْرِفَة حالهما .
ثُمَّ إن الحال في كراهيته يختلف بحسب الغرض الحامل عَلَيْهِ، إِذْ إن من يدلس هَذَا التدليس قَدْ يحمله كون شيخه الَّذِيْ غيّر سمته غَيْر ثقة، أو أصغر من الرَّاوِي عَنْهُ،أو متأخر الوفاة قَدْ شاركه في السَّمَاع مِنْهُ جَمَاعَة دونه،أو كونه كثير الرِّوَايَة عَنْهُ فلا يحب تكرار شخص عَلَى صورة واحدة(130).
الثالث: تدليس التسوية (131):
وَهُوَ أن يروي عَنْ شيخه ، ثُمَّ يسقط ضعيفاً بَيْنَ ثقتين قَدْ سَمِعَ أحدهما من الآخر أو لقيه ، ويرويه بصيغة محتملة بَيْنَ الثقتين (132) . وممن اشتهر بهذا النوع : الوليد بن مُسْلِم (133) ، وبقية بن الوليد (134) .
وهذا النوع من التدليس يشترط فِيْهِ التحديث والإخبار من المدلس إلى آخره (135) .
الرابع: تدليس العطف :
وَهُوَ مثل أن يقول الرَّاوِي : حَدَّثَنَا فُلاَن وفلان ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَع من الثاني (136) الخامس: تدليس السكوت :
وَهُوَ كأن يقول الرَّاوِي: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، ثُمَّ يسكت برهة ، ثُمَّ يقول: هشام بن عروة (137) أو الأعمش (138) موهماً أنه سَمِعَ منهما ، وليس كذلك (139) .
السادس: تدليس القطع :
وَهُوَ أن يحذف الصيغة ويقتصر عَلَى قوله مثلاً : الزهري عَنْ أنس (140) .
السابع: تدليس صيغ الأداء :
وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْنَ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَنْ الإجازة موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع (141) .
وهذه الأنواع السبعة ليست كلها مشتهرة إنما المشتهر مِنْهَا والشائع الأول والثاني وعند الإطلاق يراد الأول . وهذا القسم هُوَ الَّذِيْ لَهُ دورٌ في الاختلافات الحديثية متوناً وأسانيد ، إِذْ قَدْ يكشف خلال البحث بَعْدَ التنقير والتفتيش عَنْ سقوط رجل من الإسناد وربما كَانَ هَذَا الساقط ضعيفاً أَوْ في حفظه شيءٌ ، أو لَمْ يضبط حديثه هَذَا .
ومن الأمثلة عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ ابن حبان (142) من طريق ابن جريج (143) ، عَنْ
نافع(144)، عَنْ ابن عمر ، قَالَ : قَالَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَبُلْ قائماً )) (145) .
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنَّ ابن جريج مدلسٌ (146) وَقَدْ عنعن هنا وَلَمْ يصرح بسماعه من نافع ، وَهُوَ قَدْ سَمِعَ من نافع أحاديث كثيرة ، فهُوَ معروف بالرواية عَنْهُ ، وروايته عَنْهُ في الكتب الستة (147). ولكن النقاد ببصيرتهم الناقدة ونظرهم الثاقب كشفوا أنَّ في هَذَا السند واسطة بَيْنَ ابن جريج ونافع ، وأن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع مباشرة، بَلْ سمعه من عَبْد الكريم بن أبي المخارق الضعيف(148)، وَقَدْ صرّح ابن جريج في بعض طرق الْحَدِيْث بهذا الساقط ، فبان تدليسه ؛ فَقَدْ رَوَى عَبْد الرزاق(149)، ومِنْ طريقه ابن ماجه(150)، وأبو عوانة (151)، وابن عدي (152)، وتمام الرازي (153)، والحاكم(154)، والبيهقي (155)، عَنْ ابن جريج ، عَنْ عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، عَنْ نافع ، بِهِ .
ومن بدائه علم الْحَدِيْث أن حَدِيْث الثقة ليس كله صحيحاً (156) ، كَمَا أنّ حَدِيْث الضعيف ليس كله ضعيفاً (157) ، ومعرفة كلا النوعين من أحاديث الفريقين ليس بالأمر اليسير إنما يطلع عَلَى ذَلِكَ الأئمة النقاد الغواصون في أعماق ما يكمن في الروايات من صحة أو خطأ ، لذا فتّش العلماء في حَدِيْث ابن أبي المخارق هل توبع عَلَيْهِ ، أم أخطأ فِيْهِ؟ وخالف الثقات الأثبات أم انفرد ؟ فنجدهُمْ قَدْ صرّحوا بخطأ ابن أبي المخارق لمخالفته الثقات الأثبات في ذَلِكَ ، قَالَ البوصيري (158) في مصباح الزجاجة – بَعْدَ أن ضعّف حَدِيْث ابن أبي المخارق - : (( عارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري (159) الثقة المأمون المجمع عَلَى ثقته ، ولا يُغتر بتصحيح ابن حِبّان هَذَا الخبر من طريق هشام بن يوسف (160) ، عَنْ ابن جريج عَنْ نافع ، عَنْ ابن عمر . فإنه قَالَ بعده : أخاف أن يَكُوْن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع ، وَقَدْ صحّ ظنُّه ، فإنّ ابن جريج إمّا سمعه من ابن أبي المخارق كَمَا ثبت في رِوَايَة ابن ماجه هَذِهِ والحاكم في المستدرك واعتذر عَنْ تخريجه أنه إنّما أخرجه في المتابعات )) (161) .
وَقَالَ الترمذي : (( إنما رفع هَذَا الْحَدِيْث عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، وَهُوَ ضعيف عِنْدَ أهل الْحَدِيْث ، ضعّفه أيوب السختياني (162) وتكلم فِيْهِ . وروى عبيد الله ، عَنْ نافع عَنْ ابن عمر قَالَ : قَالَ عمر رضي الله عنه : ما بلتُ قائِماً منذُ أسلَمْتُ . وهذا أصح من حَدِيْث عَبْد الكريم )) (163).
أقول: رِوَايَة عبيد الله الموقوفة أخرجها ابن أبي شيبة (164)، والبزار (165) في مسنده(166) من طريق عبيد الله بن عمر، عَنْ نافع ، عَنْ ابن عمر ، عَنْ عمر موقوفاً، وَهُوَ الصواب.
ومما يدل عَلَى عدم صحة حَدِيْث ابن أبي المخارق أن الحافظ ابن حجر قَالَ : (( وَلَمْ يثبت عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في النهي عَنْه شيء )) (167).
بَعْدَ هَذَا العرض السريع بان لنا واتضح أن التدليس سبب من أسباب الاختلاف لدى الْمُحَدِّثِيْنَ ؛ إِذْ إنه قَدْ يسفر عَنْ سقوط رجلٍ من الإسناد فيخالف الرَّاوِي غيره من الرُّوَاة .<!-- / message -->