السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ومرت الأيام تجري والطفل يرتقي في تقليده لكلمات أمه ويحفظ بعض الأغنيات ويرددها بتعثر وتقطع، فتسقط في صدر الأم سقوط الجواهر النفيسة في صندوق فقيرة.
تضمه وتبتسم له وتكرر بنفس تقطعاته، وكأنها بذلك تعود إلى الطفولة حيث أصبحت العودة مستحيلة.
كانت مأخوذة بعالمه الجميل. تجري معه طول اليوم وتقفز وتغني.
تمنت أن لا تنقضي تلك اللحظات.
لكنه آن الأوان ليهجرها لساعات كل يوم.
وقفت أمام باب المدرسة تودعه، تقدم خطوتين والتف ليراها تلوح له بيديها فعاد سريعا إليها وقال لها لا أريد أن أذهب وبدأ في البكاء. رفعته إليها وضمته وهي تمسح على رأسه وتسكته لكن دمعها خانها فبكت هي الأخرى. أحست وكأنه يؤخذ منها عنوة.
قالت لها المدرسة وهي تبتسم: هذا حال الأطفال في اليوم الأول، لكن الأمهات من النادر أن يتصرفن مثلك.
مسحت دمعها وردت : يعز علي أن أرى دمعه.
وقبلته فأخذته المدرسة بسرعة وهو يصرخ، انقطع الصوت بعد أن أغلقت الباب وراءه.
كانت خائفة عليه مما سيحمل لها من أفكار عليها أن تخضعها لمصفاة الإلحاد لتحذف كل أثر للدين منها.
ومرت الأيام بسرعة واعتادت أن تسأله عند كل رجوع, ماذا درست؟؟ ماذا قال لك زملاؤك؟؟ فتصحح له في كل مرة.
في إحدى المرات كان جالسا يتفرج في موسوعة الحيوانات (كتابه المفضل) بينما كانت هي منهمكة بالكتابة، ظل مدة طويلة لا يحرك ساكنا, قامت إلى مكتبه الصغير فلم يلتفت إليها وظل يحدق في الصورة التي أمامه، نظرت إلى الصورة كانت لطائر اللقلاق الأبيض وهو يطير ,احتلت الصورة كل الصفحة بشكل بدى معها منظر الطائر جميلا جدا
اقتربت منه وقالت: يبدو جميلا هذا الطائر أليس كذلك؟؟
فرفع عينيه إليها وقال: هل هذا هو الذي حملني إليك؟؟
استغربت وقالت له: كيف حملك إلي؟؟
قال لها: أجل, لقد أخبرني صديقي أن أمه تقول, بأن هناك طيورا بيضاء تحملنا من جزيرة بعيدة إلى البيوت فنصبح أبناءكم هكذا نخلق.
ابتسمت له في محاولة منها لإخفاء امتعاضها من هذه القصة السخيفة التي يرد بها النصارى على أطفالهم حين يسألونهم كيف ولدوا.
ثم قالت له: لا ليس هكذا خلقت أبدا.
ثم أردفت وهي تمسك بيده : تعال معي سأريك كيف خلقت.
فتحت جهاز الحاسوب وبدأت تشرح له بالتفاصيل الدقيقة لم تتوانى في فتح أي موقع أو صورة، أسهبت في الشرح والطفل مأخوذ بما تقول، من عادته أن يمطرها بوابل من الأسئلة في خلال شرحها لكن هذه المرة ظل جامدا ساكتا، لم يتحدث، ينظر إلى الصور وإليها في ذهول غريب.
لم تسأله كما عادتها هل فهم أم تعيد، بل استرسلت في شرحها.
إلى أن قال لها في لحظة مفاجئة: توقفي لا أريد أن أرى أو أسمع المزيد.
فالتفتت إليه وقالت في استغراب: لماذا؟؟
فرد بعفوية: أنت تكذبين فالطائر هو من يحملنا إليكم وهذا الذي أرى لا يمكن.
تمنت لو تستطيع الرد عليه كما كانت تفعل أمها: ستفهم حين تكبر، لكن لم يعد هناك مجال لهذه الجملة فقد حرقتها بأسلوبها في التربية الذي يقوم على طرح كل شيء كما هو دون أخذ السن بعين الإعتبار.
ظل الطفل طول اليوم لا يحدثها ويتهرب منها، يسألها كل مرة متى سيحضر والده.
وأخيرا جاء الأب جرى إليه بسرعة وتعلق به وبدأ يحكي له عن الطائر وعما قالت له والدته، نظر إليها زوجها وقال لها: أما كان عليك الإبقاء على فكرة الطائر إلى حين.
قالت له: كنت فضلت أن أقول له أن إله المسلمين يضعنا في بطون الأمهات ويخرجنا منها كما قالت لي أمي على أن أسمح لهذه الفكرة الغبية عن الطائر أن تعشش في رأس إبني.
رد عليها بغضب: هل التربية الجنسية تكون لطفل لا زال لا يدرك معاني الأحاسيس الإنسانية لأن جلها لا زالت في حالة سكون؟؟ هل أضرت بك فكرة أن تعرفي أننا ولدنا غير ما قالت لك أمك قبلا؟؟
فردت في غضب هي الأخرى: لقد إضطررت إلى إعادة بلورة كل ما في ذهني على حسب الفهم الجديد بعد أن كانت قاعدته تفسير أمي. لقد اختصرت عليه الطريق حتى لا يكون عرضة لأي انتهاك لا فكري ولا غيره.
فتمتم وهو يغادر إلى غرفته: أفضل أن أخسر الإلحاد على أن أخسر إبني.
فقالت وهي ترفع صوتها: شكرا على هذا الإستسلام عند نقطة البداية
تبعه إبنه وظل متعلقا به طيلة ذلك اليوم، حتى أنه لم يشأ النوم إلا معه.
مرت الأيام، وعاد إلى الإلتصاق بأمه,بعد أن كاد يتخذها عدوة, وفي مرة سألته: ما رأيك في الطائر الأبيض؟؟
فصدمها قائلا: إنه من يحملنا إلى أمهاتنا.
فقالت له: لماذا لا تزال مصرا على هذه القصة الكاذبة؟؟
فأجاب بتلقائية: لأنها جميلة.
أيقنت أنه استهجن الحقيقة ولكنه على الأقل يعلمها ولم تلق بالا إذا ما كان مصدقا أم لا لما قالت له.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
|