عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 2013-06-29, 09:41 PM
نمر نمر غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2013-02-26
المكان: بلاد الاسلام بلادي
المشاركات: 692
افتراضي

أضرار اتباع الهوى وعواقبه


ماذا سيترتب من الأضرار والعواقب على اتباع الهوى فلابد من إدراك ذلك فإن قال قائل: ما هي أضرار الهوى وأخطاره حتى نعرف هذه العواقب؟

العداوة بين الناس

والعشرون: أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح. قال أبو بكر الوراق : إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغض القلب.

تمكين العدو من النفس

الحادي والعشرون: تمكين الإنسان لعدوه منه، وأعدى عدوٍ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديقٍ له عقله الناصح له، والملك الذي يذهب به إلى الخير، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه، واستأسر له، كأنه سلم نفسه للعدو وصار عنده أسيراً، وهذا بعينه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.

الذل والصغار والحرمان

والثاني والعشرون: أن لكل عقل بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار، والحرمان والبلاء بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يعذب به في قلبه، كما قال الشاعر:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عَذاباً

مآراب كانت في الشباب لأهلها
عذاباً: جمع عذب وهو ماء طيبٌ وما يستساغ من الشراب. مآراب: أغراض نفسية وشهوات.

مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عذاباً
فلو تأملت كل صاحب حال سيئة لرأيت بدايته الذهاب مع هواه، وإيثار الهوى على العقل، ومن كانت بدايته مخالفة هواه كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله في حال كهولته، ومن ملكته شهوته في حال الشباب أذله الله في حال الكهولة. وابن جرير الطبري رحمه الله كان من أصحاب السمت الحسن، والعبادة والطاعة والدين، وكان يغلب ويقهر هواه، ولذلك بلغ عمره الثمانين بل أكثر من الثمانين، فكان مرة في مجلس علم مع طلابه والناس، وفجأة قام قومة شديدة كأنشط ما يكون، فاستغربوا أن ابن الثمانين يقوم هذه القومة، وكأن بعضهم قال: هذا الشيخ لا تليق به هذه القومة، قال: تلك جوارحنا حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر. وقيل للمهلب بم نلت ما نلت؟ يعني وصلت إلى هذه الدرجة والمستوى، قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى.
هذا في الدنيا لكن في الآخرة جعل الله الجنة نهاية عظيمة لمن خالف هواه، والنار نهاية شنيعة لمن اتبع هواه.

قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:37-41]. وهذه أقوال لبعض السلف في ذم الهوى لكي تعلم كيف كان موقفهم منه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] والقدع: هو الكف والمنع: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] أي: كفوها وامنعوها من الشهوات.

[فإنها طلاعة تنـزع إلى شر غاية، وإن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيفٌ وبيء، وترك الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلا]. وقال عبد الله بن مسعود: [إذا رأيت الناس قد أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكذب، وأكثروا الحلف، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيدوا الزنا، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، فالنجاة ثم النجاة ثكلتك أمك!] انج بنفسك، لا يعاش بينهم. قال أبو الدرداء : [إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله، فيومه يومٌ صالح]
قال الزبير بن عبد المطلب:

وأجتنب الكبائر حيث كانت وأترك ما هويت لما خشيتُ
أي: فأنا مستعد أن أترك ما يدعوني إليه الهوى لأجل خشيتي لله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: [إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل]. وقال رضي الله عنه: [إياكم وتحكيم الشهوات على العقول؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها -يعني النفس- تنقاد بالتحذير والإرهاب فسوفها بالتأنيب والإرغاب فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت]. وعن ابن عباس قال: [ليأتين على الناس زمانٌ يكون همة أحدهم فيه بطنه، ودينه هواه] مثل أهل البدع، دينهم أهواء، يهوى شيئاً فيتبعه ويجعله ديناً. وعن أبي الدرداء كان يقول: [من كان الأجوفان همه خسر ميزانه يوم القيامة]. وقال رجل: العقل والهوى يصطرعان فأيهما غلب مال بصاحبه.

وقال ابن جريب:

وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا
والفعل علا، والفاعل عقله. وقال عمر بن عبد العزيز: أفضل الجهاد جهاد الهوى. وقال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعاً، ومن المحقرات التي يحقرها الناس تنتج الموبقات. ويقولون: إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقالُ
قال ابن عبد البر: لو قال: إلى كل ما فيه عليك مقال، كان أبلغ وأحسن، قال ابن مفلح: وما قاله ابن عبد البر متوجه. وقال بعض الحكماء: إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه، يعني: لو قيل هذا حكيم كبير في السن، فلماذا يشاور؟! يقال: حتى يتجرد رأيه عن هواه. وقال بعضهم: اعص النساء وهواك واصنع ما شئت.

قال ابن عبد البر : لو قال اعص الهوى لاكتفى، لا يوجد داعي لذكر النساء، قال: اعص الهوى، ثم إن الهوى قد يأتي من رجل وقد يأتي من امرأة، قال ابن مفلح : وصدق ابن عبد البر وكان أوجز. لأن الهوى هو كل شيء، إذا عصيت الهوى خلصت، وقد امتدح بعضهم جماعة من الحكماء لتركهم الهوى. و للشافعي:

إذا حار وهمك في معنيين وأعياك حيث الهوى والصواب
لم تستطع أن ترجح أيهما، ولم تعرف أيهما الهوى وأيهما الصواب
فدع ما هويت فإن الهــوى يقود النفوس إلى ما يُعاب

كان يقال: إذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب هواك فهو لعدوك. قال عمر لـمعاوية : من أغضب الناس؟ قال: من كان رأيه رداً لهواه. قال أعرابي: أشد جولة الرأي عند الهوى، وأشد فطام النفس عند الضبط.

وقال قائل: إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها -إذا صار فيها صدى- وكذلك نفسك لا تريك عيوبك في هواها. قال الشعبي: [إنما سمي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه]، وقال الأوزاعي: [قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات ذاك شيء قُرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه، قالوا: فبث فيهم الأهواء]. هل الأهواء هم أهل البدع، وأصحاب الطرق البدعية.
سواءً كانت بدعهم في القضاء والقدر كـالجبرية و القدرية، أو كانت بدعهم في الأسماء والصفات كـالمعتزلة والأشاعرة والجهمية قبلهم، أو كانت بدعتهم في الإيمان كـالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأصحاب هؤلاء الفرق هل كل واحد منهم كل يوم يتوب إلى الله من بدعته؟ هل يستغفر الله من بدعته؟ لا، لماذا؟ لأنه يرى نفسه على حق: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104] ولذلك تعهد إبليس أن ينشر في البشر اتباع الأهواء حتى يرى الواحد منهم نفسه على الحق، فلماذا يستغفر؟ فيستمر؛ لكن لو أن إبليس اكتفى بإيقاع الناس في الزنا والخمر والربا فقط فإن الناس سيعرفون أنها حرام، وقد يوفق أناس للتوبة، لكن إذا أوقعهم في البدع والأهواء فكل واحد يرى نفسه على صواب فلا يستغفر، إذا نصحته يقول: استغفر لنفسك أنت! وعن جعفر بن الجمرخان قال: بلغني عن أبي منبه أنه قال: إن من أعوان الخلائق على الدين الزهاد في الدنيا، وأوشكها رداً اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف وإن من حب المال والشرف، استحلال الحرام وغضب الله. وقال أبو سهل: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سئل أبي ما الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى لأجل خشية الله، والآخرة تترك الهوى. وقال أبو حازم : قاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك.

وقال ابن المبارك :

ومن البلاء وللبلاء علامة ألا ترى لك عن هواك نزوعُ

العبد عبد النفس في شهواتـها والحر يشبع مرة ويجوعُ

إذا غلبت أمواج الهوى يصبح العالم مفتوناً بالدنيا، يبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل عاشقٌ له، مستمد لفتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكل قد شغله الشيطان بخوف الفقر، وقد كان من عادة السلف -هذه سنة مفقودة- المراسلة فيما بينهم، كل واحد يوصي الثاني..
كل فترة يرسل رسالة لأخيه يوصيه، كل واحد يوصي الآخر بالحق والصبر، وهذه من الممكن أن تحصل اليوم في بعض الناس الذين يرسلون رسائل في الجوالات، يتفقد فيها أخاه برسالة قصيرة ونصيحة موجزة. فهذا إسحاق بن عبد المرسل الدمشقي يرسل إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي في أنطاكيا وذاك في دمشق.

فكان في كتابه: إذا أصبحنا في جهل ..

حيرة تضطرب علينا أمواج الهوى، فالعالم منا مفتون بالدنيا ليبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل منا عاشقٌ لها مستمدٌ من فتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكلٌ قد شغل الشيطان قلبه بخوف الفقر، فأعاذنا الله وإياك من قبول عزة إبليس، وترك عزة رب العالمين. يا أخي! لا تصحب إلا مؤمناً يعظك بعقله، ومقاديح قوله، أو مؤمناً تقياً، فمتى صحبت غير هؤلاء أورثوك النقص في دينك، وقبح السريرة في أمورك، وإياك والحرص والرغبة فإنهما يسلبانك القناعة والرضا، وإياك والميل إلى هواك، فإنه يصدك عن الحق، وإياك أن تظهر أنك تخشى الله وقلبك فارغ، وإياك أن تضمر ما أظهرته فإنك إن أظهرته أخزاك، وإن أضمرته أرداك.

والسلام. وقال إبراهيم: أشد الجهاد جهاد الهوى، ومن منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلائها، وكان محفوظاً من أذاها، الهوى جرحٌ، وخوف الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك إذا خفت من تعلم بأنه يراك. وقال أيضاً: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال لـخالد بن صفوان : عظني وأوجز، فقال: يا أمير المؤمنين! إن أقواماً غرهم ستر الله، وفتنهم حسن الثناء فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعما افترض الله علينا متخلفين ومقصرين، وإلى الأهواء مسارعين ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتباع الهوى. والهوى تركه دواء واتباعه داء، فاصبر على الدواء كما تخاف من الداء.
وقال الشاعر:

صبرت على الأيام حتى تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرتِ

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا تفلتِ
وقال معاوية : المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى، فاتباع الهوى يُذهب المروءة، ومخالفته تنعشها، وقال ابن عبد القوي رحمه الله في منظومة الآداب الجميلة الجليلة التي هي جديرة

بالحفظ على طولها:

فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليدِ

وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي ميلها ما تشتهي ذل سرمدِ

ولا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا تلقي النفس النفيسة في الردي

وفي خلوة الإنسان بالعلم أنسه ويسلم دين المرء عند التوحدِ

ويسلم من قيلٍ وقالٍ ومن أذى جليسٍ ومن واشٍ بغيضٍ وحسدِ

فكن خلف بيتٍ فهو سترٌ لعورة وحرز الفتى عن كل غاوٍ ومفسدِ

وخير جليس المرء كتب تفيده علوماً وآداباً وعقلاً مؤيد

وخالط إذا خالطت كل موفقٍ من العلما أهل التقى والتهجدِ

يفيدك تعليماً وينهاك عن هوى فصاحبه تهدى من هداه وترشدِ

وإياك والهماز إن قمت عنه والـ ـبذي فإن المرء بالمرء يقتدي

ولا تصحب الحمقى ففي الجهل إن ترم صلاحاً لشيء يا أخا العزم يفسدِ


الصرع عن النهوض يوم القيامة


والسابع عشر: أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النهوض يوم القيامة إلى السعي مع الناجين، كما صرعته الدنيا بمرافقته لأهل الأهواء. قال محمد بن أبي الورد : "إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه" ما هو هذا اليوم؟ إنه يوم القيامة، والدليل على أن يوم القيامة له شر قوله تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ [الإنسان:11] ..
يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7] فالذي يتبع الهوى لا ينجو من شر ذلك اليوم. قال محمد بن أبي الورد : إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه، وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته أي: أن صريع شهوته أبطأ الناس قياماً من الصرع.


ضعف العزيمة


والثامن عشر: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها، ومخالفته تشد العزائم وتقويها، والعزيمة هي مركب العزم إلى الله والدار الآخرة، فمتى تعطل المركوب تعطل المسافر. قيل لـيحيى بن معاذ : من أصح الناس عقلاً؟ قال: الغالب لهواه. ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن مهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن النساء وجهاً، فقال له سليمان : كيف ترى هذه الجارية؟ فقال: أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط، فقال له: خذ بيدها، فقال: ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة إعجابه بها، قال: ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب. هذا الأمير كان عاقلاً، قال: خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب..
فأخذ ذلك بيدها وهو لا يكاد يصدق، أنه وهب هذه الأمة، وخرج وهو يقول:

لقد حباني وأعطاني وفضلنـي عن غير مسألة منه سليمان

أعطاني البدر قوداً في محاسنهـا والبدر لم يعطه إنس ولا جان

ولست يوماً بناسٍ فضله أبـداً حتى يغيبني لحدٌ وأكفانُ

السير إلى الهلكة


والتاسع عشر: أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديدٍ صعبٍ جموح لا لجام له، راكب فرس منطلق بدون لجام، فيوشك أن يصرعه فرسه خلال جريه أو يسير به إلى مهلكة. قال بعضهم: أسرع المطايا إلى الجنة الزهد في الدنيا، وأسرع المطايا إلى النار حب الشهوات، ومن استوى على متن هواه أسرع فيه إلى وادي الهلكات. وقال بعضهم: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا، واستصعب قياده على الهوى. وقال عطاء: من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح، أي: يوم الفضيحة الكبرى. من غلب هواه عقله: يعني الهوى تغلَّب على العقل فصار العقل فيه الفضيحة، ومخالفة الهوى مخرجة للداء عن القلب والبدن، ومتابعة الهوى مجلبة للداء في القلب والبدن، وأمراض القلب كلها إذا فتشتها كلها وجدتها من متابعة الهوى.


أنه من المهلكات


وسابعاً: أن اتباع الهوى من المهلكات، ولذلك قال: ثلاث ملهيات، وثلاث مهلكات.
ومن المهلكات هوى متبع، إذاً اتباع الهوى يؤدي إلى الهلاك.


غلق باب التوفيق


وثامناً: يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لصار له كذا وكذا، وقد سد عن نفسه طرق التوفيق باتباع الهوى. قال الفضيل بن عياض: [من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق].
لكن اتبع هواه فصرف الله عنه التوفيق، لا يوفقه باتباع الهوى. وقال بعض العلماء: الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرغبة، والرهبة، ثم قال: رأيت منهن اثنتين: رجلٌ غضب فقتل أمه -يقول: أنا اطلعت على قصة واقعية أن رجلاً وصل به الغضب لدرجة أنه قتل أمه- ورجلٌ: عشق فتنصر.
أي: وقع في الشهوة والهوى حتى أخرجه ذلك عن الإسلام إلى النصرانية ، مثلما حصل لذلك الذي كان مجاهداً مع الجيش الإسلامي وهم يحاصرون حصناً للكفار، فاطلعت امرأة من الحصن نصرانية فعشقها من أول نظرة، فدعته فطلب الدخول فأدخلته، فطلب أن يتزوجها، قالت: حتى تتنصر، فتنصر ودخل في النصرانية .
قال: وكان رجلٌ يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ
يقول: أهوى هوى الدين..
أحب الدين، وفي نفس الوقت واللذات تعجبني، فكيف لي بهوى اللذات والدين؟ كيف أجمع بينهم، المشكلة أن بعض الناس يتصور أنه ممكن الجمع بينهما، وهذا من المحال، لا يمكن؛ لأنها متضادة كما قلنا في أول الدرس
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ
والمرأة تسمع..
فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.


التكبر عن الطاعة


وتاسعاً: النقصان والتلاشي في الطاعة، تلاشي الطاعة من النفس باتباع الهوى؛ لأن صاحب الهوى يعز عليه ويكبر في نفسه أن يطيع غيره، حتى لو كان خالقه، وبعض الناس الذي أوقعه في الكفر أنه لا يريد أن يستمع أي أمر ولو من الخالق، استكباراً؛ لأن الهوى تمكن من قلبه وملك عليه نفسه، فصار له أسيرا، وموقعاً له في الغرور، والإنسان ليس له قلبان في جوفه، بل إما أن يطيع ربه وإما أن يطيع نفسه وهواه والشيطان.


الاستهانة بالذنوب والمعاصي


عاشراً: الاستهانة بالذنوب والآثام، فإن المتبع للهوى يقسو قلبه، وإذا قسا القلب استهان واستهتر بالذنوب والآثام، ولذلك قيل: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا.

البعد عن الحق وقبوله النصيحة
الحادي عشر: يبعد عن قبول الحق والاستماع للنصيحة.


الابتداع في الدين


والثاني عشر: الابتداع في دين الله، وذلك أن صاحب الهوى يميل إلى ما ابتدع وما استحسن ولذلك قال حماد بن سلمة : حدثني شيخٌ لهم تاب -يعني الرافضة - قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً أو فهوينا شيئاً جعلناه حديثاً. والابتداع هو الضلال وكل ضلال في النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.


التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم


الثالث عشر: التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم، فصاحب الهوى لا يوفق للحق؛ لأنه أعرض عن مصدر الهداية والتوفيق، وصار مستمعاً لهواه لا للكتاب والسنة، فكيف يوفق للطريق الصحيح؟ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثـية:23].


إضلال الآخرين


والرابع عشر: أن من أضرار اتباع الهوى ما يتعدى للآخرين وليس فقط على النفس، ولذلك فهو يضل الآخرين ويبعدهم عن الطريق، ولذلك قال عز وجل: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119] ليضلون يعني يضلون غيرهم. إذاً: هذا من أضرار اتباع الهوى أنه يتعدى إلى الآخرين.


فساد العقل والرأي


والخامس عشر: أن من نصر هواه فسد عقله ورأيه؛ لأنه خان الله فأفسد عليه عقله. قال المعتصم يوماً لبعض أصحابه: يا فلان! إذا نصر الهوى ذهب الرأي. وقال ابن القيم : وسمعت رجلاً يقول لشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- إذا خان الرجل في نقص الدراهم سلبه الله معرفة النقد. الآن هناك أناس يميزون بين الدراهم الزائفة والدراهم الصحيحة، وكان الواحد منهم يأخذ دينار الذهب أو درهم الفضة بمجرد مسكه ووزنه في يده وصوته وهو يضرب في بعضه يعرف هل هذا صحيح أم مزور، وهذه خبرة؛ فقال: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد.
فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم واتبع هواه فإن الله عز وجل يسلبه المعرفة والعلم.


التضييق في القبر


والسادس عشر: أن من فتح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليه في قبره وفي معاده، وقد نبه الله عز وجل إلى هذا في قوله عن الذين تجردوا للحق: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:12] فلما كان في الفضل الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق في الدنيا جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة، ولذلك قال أبو سليمان الداراني في الآية: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:12] أي: بما صبروا عن الشهوات.


إفساده لما قاربه


وخامساً: أن الهوى ما قارب شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة، أي: إذا وقع الهوى في العلم صار طالب العلم مبتدعاً، وصار صاحبه من أهل الأهواء، وإن وقع الهوى في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم والصد عن الحق، وإذا وقع الهوى في الحكمة خرج ذلك إلى الجور، وإن وقع في الولاية والعدل -أي: الهوى- أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، فيولي بهواه ويعدل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن كونها طاعة، فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده.


الانسلاخ من الإيمان


وسادساً: أنه يخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي علينا من مضلات الهوى كما في الحديث المتقدم وكذلك أخبرنا عن الذي انسلخ من آياته واتبع هواه كيف هلك.

فساد القلب


رابعاً: اتباع الهوى يفسد القلب، ويحول بينه وبين السلامة. قال ابن القيم رحمه الله: إن سلامة القلب لا تتم إلا لخمسة أشياء، يعني: لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، فما هو القلب السليم؟ وسليم من ماذا؟ سليم أي: سالم، قال: حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض الاتباع، وهذه الخمسة حجبٌ عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة لا تحصى أفرادها، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم.

مشقة التخلص منه


ثالثاً: والهوى يعمي ويصم، والتخلص منه صعب. قال الشاطبي في الموافقات : مخالفة ما تهوى النفس شاقٌ عليك، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى في أهله مبالغ لا يبلغها غيره، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، أي: صار العشاق مثل المجانين، عندما اتبعوا أهواءهم فلو تنظر في كتاباتهم وأفعالهم تجدها كأفعال المجانين، وكذلك حال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين فقد أصروا على باطل حتى قدموا نفوسهم وأموالهم في بدر قتلاً وفي غير بدر !! لهذه الدرجة مستعدين أن يقدموا نفوسهم وأموالهم ضد الحق؛ لأن الحق يخالف أهواءهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23] ..
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14].

الصد عن فهم القرآن


الثاني: أن الهوى من موانع الانتفاع بالقرآن، ولذلك قال الله عن متبعي الأهواء ..
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].

اتباع الهوى أصل الضلال
فالجواب أولاً: إنه أصل الضلال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23] وفي هذا ظن.
رد مع اقتباس